خبزنا الذي للغد كفافنا - الضروري - الجوهري (2)

* ثلاث مَعَانٍ للخُبز:

يُشير هذا الخبز إلى: القوت اليومي، والإفخارستيا، وكلمة الله.

 أولاً: القوت اليومي:

+ يقول القديس أغسطينوس: كأنّنا نصلي قائلين: هَب لنا الأمور الأبديّة (الطلبات السابقة في الصلاة الربّانيّة)، وأعطِنا أيضًا الأمور الزمنيّة.. لقد وعدتَ بالملكوت فلا تحجُب عنّا وسيلةَ الحياة. ستعطينا مجدًا أبديًا إذ تهبنا ذاتك فيما بعد، أعطِنا على الأرض المؤونة الزمنيّة... ثمّ يقول: بلا شك هذه الطلبة تُفهَم عن الخبز اليومي من ناحيتين: القوت الضروري للجسد والمؤونة الروحيّة الضروريّة. توجد مؤونة لازمة للجسد لحفظ حياتنا اليوميّة، بدونها لا نقدر أن نعيش وهي الطعام والملبس، لكن بذكر الجزء (الخبز) نقصد الكل.

 

ثانيًا: سرّ الإفخارستيا:

+ يقول القديس أغسطينوس في حديثه مع طالبي العماد: إن كنتُم تفهمون هذا الخبز أنّه ما يناله المؤمنون (خبز البنين)، وهو الذي تنالونه أنتم بعد العماد، فإنّه من المهم أن نسأل ونطلب "خبزنا اليومي أعطنا اليوم" لكي نسلك بحياة مقدّسة فلا نُحرَم من الهيكل المقدّس... أعطنا جسدك، طعامنا اليومي... دعنا نعيش صالحين حتى لا نُحرَم من مذبحك.

+ يقول القديس كبريانوس: المسيح هو خبز الحياة بالنسبة لنا ولا يخصّ كلّ البشر. وكما نقول "أبانا" إذ هو أب لكلّ مَن يَفهم ويؤمن، هكذا ندعو المسيح خبزنا، لأنّه خبزٌ لكلّ الذين يتّحدون بجسده. ونحن نطلب أن يعطينا هذا الخبز كلّ يوم، فنحن الذين في المسيح ونتناول يوميًا الإفخارستيا كطعام خلاصنا، لا نودّ أبدًا أن نُمنَع من الشركة بسبب قهر زلّة عَرَضيّة تحرمنا من خبز السماء، وتفصلنا عن جسد المسيح. لقد سبق فنادى وحذّر: "أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو6: 51).. لذلك نطلب أنّ خبزَنا- أي المسيح- يُعطَى لنا كلّ يوم، حتى أنّنا نحن الذين نسكن في المسيح ونحيا فيه لا نُحرَم منه.

 

ثالثًا: كلمة الله وحكمته:

+ يقول القدّيس أغسطينوس: هل لأنّ الأبرار والأشرار يأخذون خبزًا من الله تفتكرون أنّه لا يوجد خبز آخر يطلبه البنون، هذا الذي يقول عنه الرب في الإنجيل: "ليس حسنًا أن يُؤخَذ خبز البنين ويُطرح للكلاب" (مت15: 26)؟ بالتأكيد يوجَد خبز آخر، فما هو هذا الخبز؟ ولماذا دُعِيَ بالخبز اليومي؟ لأنّه ضروري كالخبز الآخر، بدونه لا نستطيع أن نحيا... ذلك هو كلمة الله التي توزّع يوميًا خبزنا يومي، تحيا به أرواحنا لا أجسادنا، إنّه لازم لنا نحن الذين لا نزال نعمل في الكَرْم. إنّه الغذاء وليس الأُجرة. فمن يستأجر عاملاً يلتزم بتقديم الغذاء له حتى لا يخور، أمّا الأُجرة فتُقدَّم له ليُسَرّ بها. غذاؤنا اليومي في هذه الحياة هو كلمة الله، التي تُوَزّع على الدوام في الكنائس، أمّا أجرتنا التي نأخذها بعد العمل فهي التي تُدعَى بالحياة الأبديّة... ما عالجته أمامكم الآن هو خبزٌ يوميٌّ، كذلك فصول الكتاب المقدّس التي تسمعونها يوميًا في الكنيسة هي خبز يومي. التسابيح التي تترنمون بها هي أيضًا خبز يومي. لأن هذه جميعها ضروريّة لنا أثناء رحلتنا.

+ يقول العلاّمة أوريجينوس: الخبز الحقيقي هو الذي يقوت الإنسان الحقيقي الذي خُلق على صورة الله، ومَن يقتات به يصير أيضًا على مثال الخالق. ولكن أيّ شيء يُنعِش النفس إلاّ "الكلمة"، وأيّ شيء أثمن لذهنه من حكمة الله؟... وأيّ شيء يخصّ النفس العاقلة أكثر من "الحق"؟... لكي لا تَمرض نفوسنا بسبب عدم وجود قوت لها، ولكي لا تموت بسبب وجود مجاعة في كلمة الرب. فلنسأل الآب الخبز الحيّ كخبز يومي، مطيعين مخلّصنا كمعلّم، وواضعين إيماننا فيه، سالكين بأكثر حكمة.

+ يقول القدّيس أغسطينوس: عندما تنتهي هذه الحياة لا نطلب الخبز الذي نجوع إليه، ولا نأخذ من الأسرار المقدّسة من على المذبح، إذ نكون هناك مع المسيح الذي نأخذ جسده هنا، ولا تحتاجون إلى من يحدّثكم عما أنطق به معكم الآن، ولا نقرأ الكتاب المقدّس إذ نُعاين كلمة الله نفسه، الذي به كان كلّ شيء وبه يتغذّى الملائكة ويستنيرون ويصيرون حكماء، دون حاجة إلى المناقشات المستمرّة... إنّهم يشربون من الكلمة الوحيد، مملوئين من ذلك الذي به ينفجرون في التسبيح بلا انقطاع، إذ يقول المزمور: "طوبى للساكنين في بيتك يُسبّحونك إلى الأبد" (مز84: 4).

 

[نختتم حديثنا بنعمة المسيح في المقال القادم]