خبزنا الذي للغد كفافنا - الضروري - الجوهري (1)

في الصلاة الربّانيّة، يحتار الكثيرون في عبارة "خبزنا الذي للغد" أو "خبزنا كفافنا" أو "خبزنا الآتي".. أيّهما أصحّ أو أدقّ؟

هذا البحث هو محاولة متواضعة للغوص في المعنى المقصود للكلمة، بحسب الأصل اليوناني، وبحسب آراء آباء الكنيسة الأولين، الذين تنوّع فهمهم للمعنى، وإن كان معظمهم قد اهتمّ بالتركيز على المعنى الروحي لهذه الصلاة.

+ الكلمة اليونانيّة هي "إيبي أُوسيوس" أو "إيبي أُسيون"، ومعناها الحَرفي: "فوق الجوهري" (Super substantial) أو أكثر من مُهِم، أو فوق الضروري، أو أعلى فخامةً..

كلمة "إيبي" تعني "من أعلى"، مثلما تجيء في كلمة "إيبيسكوبوس - أسقف" وتعني "الناظر من فوق".. وكلمة "أُوسيوس" تعني "جوهر".

+ العلاّمة أوريجينوس يقول أن كلمة(epiousios)  مأخوذة عن "ousia" أي "جوهر". بينما يرى البعض أنها مشتقّة عن "epienai" والتي تعني "الغد".

+ بنفس الفِكر يذكر جيمس سترونج في كتابه: "القاموس اليوناني للعهد الجديد" بأنّ الكلمة مُشتقّة إمّا عن "epiousa" أو"epi"  أو "eimi"، وأنّ معناها: أساسي، جوهري، ضروري، يومي، الغد..

+ يقول القدّيس جيروم بالنَصّ:

في الإنجيل، المصلح المُستخدم بواسطة العبرانيين ليعطي معنى:super substantial bread  هو "مار maarووجدتُ أنّه يعني "الذي للغد". وعلى هذا فالمعنى يكون: "أعطِنا اليوم خبزَ الغد" الذي هو المستقبل.

* ملحوظة: هذا يتّفق مع النص القبطي: Penwik  `nte  rac;  بين أويك إنتيه راستي - خبزنا الذي للغد. وهنا الغد يعني: المستقبل.. الحياة الأبديّة.. خبز السماء.. طعام الملكوت. وجدير بالاعتبار أنّ آباءنا الأقباط الذين ترجموا العهد الجديد من اليونانيّة للقبطيّة في القرن الثاني الميلادي، كانوا يجيدون اليونانيّة تمامًا بجانب القبطيّة، وبرعوا في فهم المعاني المقصودة بالمصطلحات، ولذلك لم يقوموا بمجرّد ترجمة حرفيّة قد لا توضِّح المعنى المقصود.

ويضيف القديس جيروم:

نستطيع أيضًا أن نفهم super substantial bread  بمعنى آخر: الخبز الذي يفوق كلّ الأمور المادّيّة، ويسمو فوق كلّ الخلائق.

* ملحوظة: القديس جيروم (27 مارس 347م - 30 سبتمبر 420م) نشأ في الغرب ثم حضر للشرق، وكان موهوبًا في الكتابة وتعلُّم اللغات؛ فكان يُتقِن اللاتينيّة، ويجيد اليونانيّة، وتعلّم العبريّة أيضًا بكلّ إتقان، وترجم منها العهد القديم بكامله إلى اللاتينيّة، وهي الترجمة الشعبية الشهيرة المعروفة بالفولجاتا.

\              \              \

تتنوّع تفسيرات آباء كثيرين حول هذه الآية.. لذلك بنعمة المسيح سأقدّم شرحًا تأمليًّا وافيًا لما قاله العديد من الآباء.. وبعدها أقدّم ترجمة حرفيّة لنصوص كاملة علّق بها أربعة من آباء الكنيسة الكبار حول هذا النصّ الإلهي.

 

أوّلاً: تفاسير وتأمّلات آبائيّة:

 

+ يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنّه بعد الصلاة من أجل الأمور السماويّة في طلبات الصلاة الربّانيّة السابقة، يطالبنا الله أن نسأله حتى عن احتياجاتنا الجسديّة وضروريات الحياة بسبب ضعف طبيعتنا، فنطلب من أجل خبزنا اليومي، أي خبز يوم واحد فقط ولا نطلب من أجل الغد.

+ قَبِلَ القدّيس أغسطينوس هذا التفسير مضيفًا إليه تفسير الخبز اليومي بالتناول من الأسرار المقدّسة؛ جسد الرب ودمه الذي في أيّامه كان يقدَّم يوميًّا.

+ المعنى أيضًا يفهمه القدّيس أغسطينوس بكونه الغذاء الروحي عن طريق تنفيذ الوصيّة الإلهيّة، لكي تَشبع النفس وتتغذّى لمواجهة الشهوات الزمنيّة.. إنّنا نطلب هذا الغذاء مادام الوقت يُدعَى "اليوم"، أي مادمنا في الحياة الحاضرة، لأنّنا في الحياة الأخرى لا نحتاج أن نطلب طعامًا بل نلتقي بالسيّد المسيح طعامنا الذي ننتعش به..

+ يقول القديس كيرلس الكبير أنّه عندما يأمرنا الرب أن نصلّي "أعطِنا كلّ يوم خبزنا الضروري" ربمّا البعض يعترض قائلاً أنّه ليس من المناسب ولا من اللائق بالقدّيسين أن يطلبوا من الله هذه الأمور الجسدانيّة، ولذا قد يأخذون ما قيل بالمعنى الروحي.. وأنا أيضًا أقول بلا أدنى شكّ أنّه من الأليَق جدًّا بالقدّيسين أن يسعوا بكلّ جهدٍ ليُحسَبوا مستحقّين للعطايا الروحيّة، ولكن من جهة أخرى ينبغي لنا أن نفهم أنّه حتّى إذا كانوا يطلبون مجرّد الخبز العادي فلا لوم عليهم... ويضيف القديس كيرلس أنّ كلمة "إيبي أوسيوس" التي تُطلَق على الخبز، يشرحها البعض بما هو آتٍ، أيْ المُزمِع أن نُعطاه في العالم الآتي بالمفهوم الروحي أيضًا، في حين أنّ آخرين يعطون للكلمة معنىً مغايرًا.. وهو يفضِّل أن يكون المعنى: "ما هو ضروريّ وكافٍ".

 

[نستكمل الحديث بنعمة المسيح في المقال القادم]