ليس لهم ما يفعلون أكثر..!

حوادث متتابعة وحشيّة دمويّة ضد أبناء المسيح والكنيسة القبطيّة الأُرثوذكسيّة بمصر ينفطر لها القلب.. وبعد كلّ حادثة تنطلق الحناجر والأقلام لتصرخ وتشكو، ثمّ تلقي باللوم هنا وهناك، وتطالب بالحقوق وبالقصاص.. ولست أحبّ أن أكرّر كلامًا في هذا الاتّجاه، لأنّ هناك مَن هو أقدر منّي على الحديث الحقوقي والسياسي في بلد مضطربة، ومضروبة بالتعصُّب والجهل والإرهاب. وكما علّمنا السيّد المسيح أن نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فأنا أودّ أن أترك المجال للحقوقيين والسياسيين لكي يكافحوا بكلّ وسائلهم المشروعة من أجل تحقيق العدالة، وتحسين الأوضاع المعيشيّة، والمطالبة بالحقوق المتساوية لجميع المواطنين.. وأحترم تمامًا جهدهم وأقدّره، بل وأشجّعهم على مواصلة كفاحهم من أجل الارتقاء بالوضع الحقوقي والإنساني في بلادنا الحبيبة مصر.

ما يشغلني في الحقيقة هو البُعد الروحي والإيماني في هذه الأحداث المؤلمة، وخاصّةً أنّني لاحظت أنّ الكثيرين يخلطون بين ما هو سياسي وما هو ديني، بل ويستخدمون آياتٍ من الإنجيل في سياق سياسي، ويستخدمون ألفاظًا سياسيّة وتصريحاتٍ عنتريةً في سياق يبدو مسيحيًّا.. وأحزنني أن أرى قِلّة بدأ إيمانها يهتزّ من هَوْل الأحداث، والبعض بدأ يستخدم ألفاظ الشتم واللعن ويدعو للعنف، والبعض يكيل الويلات لآباء الكنيسة لأنّهم يقومون بتهدئة الناس وتعزيتهم، واصفًا إيّاهم بالكتبة والفرّيسيين المرائين..!! ما هذا الخَلط المُخزِي..؟!!

من أجل ذلك أودّ أن نتذكّر معًا بعض المبادئ المسيحيّة الهامّة التي ينبغي أن تكون أمام أعيننا بشكل دائم:

أوّلاً: نحن نتمتّع بامتياز عظيم، أنّنا لسنا من هذا العالم..

فنحن منذ يوم ولادتنا الجديدة من المعموديّة قد صار انتماؤنا الأهمّ والأبقى هو عضويّة الملكوت السماوي، ومعروف أنّ مملكة المسيح ليست من هذا العالم (يو18: 36).. فبالمعموديّة وبمسحة الميرون قد صار لنا شركة مع الثالوث القدّوس، إذ نلنا التبنّي للآب والعضوية في جسد المسيح وصرنا هيكلاً للروح القدس.. كما يعلّمنا الإنجيل أنّنا قد صِرنا مولودين من الله (يو1: 12-13)، و"أَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ" (1كو12: 13).. و"أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟" (1كو3: 16)..

لذلك ليتنا لا نتعجّب إن كان العالم يبغضنا (1يو3: 13)، بل نذكُر دائمًا كلام ملكنا وإلهنا: "إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ، لِذلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ. لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ... بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً ِللهِ.." (يو15، 16). "إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟" (لو23: 31)..

وإذا كُنّا لَسنا من هذا العالم، فمن الخطأ أن نضع رجاءنا فيه.. فنحن غرباء على الأرض، وضَعَنا الله فيها لنتاجر يوميًّا بوزناته التي سلّمها لنا بكلّ أمانة، واضعين رجاءنا في الحياة الأبديّة.. "غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ" (2كو3: 18)، "مُنْتَظِرِينَ وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ" (2بط3: 12).. "فَرِحِينَ فِي الرَّجَاءِ، صَابِرِينَ فِي الضَّيْقِ، مُواظِبِينَ عَلَى الصَّلاَةِ" (رو12:12)..

ثانيًا: الآلام ليست هي نهاية المطاف، والصليب ليس هو المحطّة الأخيرة..

صحيح أنّ الأحداث الدامية تصيب النفس بالحزن والفزع، ولكن عندما ننظر بعين الإيمان نفهم أنّ هذا سيؤول إلى مجد عظيم وبركة كبيرة.. فالأحداث الأليمة تتكرّر كثيرًا في حياة الكنيسة، ولكنّها في كلّ مرّة تَخرُج أقوى مِمّا كانت.. وينهار الهجوم المُعادي دون أن يستطيع القضاء عليها، بل يساعد فقط على نموّها..!

موجات الاضطهاد العاتية على مدى التاريخ، لم تستطِع أن تهزّ إيمان الكنيسة.. فانحسرت الممالك ومات الطُغاة، وبقيّت الكنيسة حيّة ونامية، مرتوية بدماء شهدائها وحبّهم، متقوّية بحضور المسيح الذبيح في وسطها باستمرار..!

الصليب ليس هو المحطّة الأخيرة، أو نهاية المسيرة.. وإذا كانت الكنيسة تمرّ الآن بمحطّات كثيرة من هذا النوع، فهذه ليست النهاية.. بل نؤمن بكلّ قلوبنا أنّه بعد الصليب لابد أن تأتي القيامة.. لأنّ إلهنا ليس ضعيفًا لكي يغلبه الموت.. بل هو إله عظيم وقوي ومنتصر، وهو ناصر جميع المتوكلين عليه..!

ثالثًا: نحن لا نخاف، ولكنّنا أيضًا لا نقاوم الشرّ بالشرّ..

فنحن نعرف أنّ الشيطان في حالة يأس، وفي كلّ مرّة يؤكِّد عجزه التام عن خطف النفوس من يد المسيح (يو10: 28-29).. وأقصى ما يستطيعه هو قتل الجسد، وليس لديه ما يفعل أكثر.. وفي هذا الخصوص أوصانا ربنا يسوع قائلاً: "أَقُولُ لَكُمْ يَا أَحِبَّائِي: لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ، وَبَعْدَ ذلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ.. خَافُوا مِنَ الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هذَا خَافُوا!" (لو12: 4-5).. وهنا يوضِّح لنا السيّد المسيح أن قتل الجسد أمر هيّن جدًّا مقارنةً بالهلاك الأبدي.. وحتّى هذا القتل ليس معناه أنّ للشيطان سلطان علينا، فقد أكّد المسيح لبيلاطس: "لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ" (يو19: 11).. بل أنّ ربنا يسوع يطمئنّا بقوله "شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ أَيْضًا جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ. فَلاَ تَخَافُوا" (لو12: 7)..

نحن لا نخاف لأنّنا مسنودون على إله عظيم وعادل ومحبّ جدًّا لأولاده.. وهو قد وعدنا بالاهتمام الكامل بنا، لذلك أوصانا كثيرًا في إنجيله بألاّ نقاوم الشرّ بالشرّ أبدًا.. (مت5: 38-48)..

نحن نؤمن أنّ المحبّة قادرة على تغيير القلوب.. لذلك فرسالتنا هي أن نزرع المحبّة في كلّ مكان.. نأخُذ من الله ونفيض على جميع الّذين حولنا بحُبّ عملي، واثقين أن المحبّة هي أقوى سلاح، ولا ينبغي أبدًا أن نُستدرَج لردّ الشرّ بالشرّ، بل نترك الأمور بين يديّ الله المُعتني بنا، كما يعلّمنا الإنجيل: "لا تجازوا أحدًا عن شرٍّ بشرٍّ.. إن كان مُمكِنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس. لا تنتقموا لأنفسِكم أيها الأحبّاء.. لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب. فإن جاع عدوُّك فأطعِمه، وإن عطش فاسقِهِ، لأنّك إن فعلت هذا تجمع جمر نار فوق رأسه. لا يغلبنّك الشّر، بل اغلب الشرّ بالخير" (رو12: 17-21).

رابعًا: ينبغي أن نفرح رغم كلّ الظروف المُعادية..

هذا ما أوصانا به إلهنا وملكنا المسيح: "افرحوا وتهلّلوا لأنّ أجركم عظيم في السموات.. طوبى لكم إذا طردوكم وعيّروكم.. طوبي للحزانى لأنّهم يتعزّون" (مت5).. ويشجّعنا أيضًا القديس بولس بقوله: "صَبَرْتُمْ عَلَى مُجَاهَدَةِ آلاَمٍ كَثِيرَةٍ.. بِتَعْيِيرَاتٍ وَضِيقَاتٍ.. وَقَبِلْتُمْ سَلْبَ أَمْوَالِكُمْ بِفَرَحٍ، عَالِمِينَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّ لَكُمْ مَالاً أَفْضَلَ فِي السَّمَاوَاتِ وَبَاقِيًا. فَلاَ تَطْرَحُوا ثِقَتَكُمُ الَّتِي لَهَا مُجَازَاةٌ عَظِيمَةٌ. أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى الصَّبْرِ، حَتَّى إِذَا صَنَعْتُمْ مَشِيئَةَ اللهِ تَنَالُونَ الْمَوْعِدَ. أَنَّهُ بَعْدَ قَلِيل جِدًّا سَيَأْتِي الآتِي وَلاَ يُبْطِئُ. أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا، وَإِنِ ارْتَدَّ لاَ تُسَرُّ بِهِ نَفْسِي. وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا مِنَ الارْتِدَادِ لِلْهَلاَكِ، بَلْ مِنَ الإِيمَانِ لاقْتِنَاءِ النَّفْسِ" (عب10: 32-39)..

فإذا كانت "خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا" (2كو5: 17).. فإنّنا نصبر بإيمان ثابت، ونفرح..!

خامسًا: الرسالة التي يجب أن نلتقطها باستمرار في حالة المصائب المُفجعة هي تجديد روح التوبة في حياتنا..

لقد كان تعليق السيّد المسيح على مثل تلك الحوادث والكوارث الدمويّة جملة واحدة كرّرها أكثر من مرّة: "إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلِكون" (لو13: 3، 5)..

التوبة تقوّينا وتثبِّتنا في الله، وبالتالي تهيِّئنا بشكل أفضل لاحتمال المشقّات..!

التوبة تنقّينا وبالتالي تعطينا شجاعة في مواجهة الضيقات، وتمنحنا سلامًا وحكمةً في كلّ الظروف الصعبة..!

التوبة الجماعيّة هي التي خلّصَت الشعب في أيّام أستير عندما كانوا جميعهم في حُكم الموت، وحوّلَت بؤسهم إلى فرح وأحزانهم إلى أفراح وأعياد..!

في غياب التوبة الشخصيّة، يجد الشيطان له مكانًا في وسط الكنيسة، ويعكّر أجواءها..

لنبدأ كلّ واحد مِنّا بنفسه، ونكرم وقفة الصلاة في المخدع، لنتوب ونتزوَّد بالمعونة الإلهيّة.. ونشجّع بعضنا أيضًا على اجتماعات الصلاة، وحضور القدّاس الذي هو رحلة توبة تُتَوّج بالغفران والاتحاد بالمسيح..

التوبة هي مفتاح الفرح والبركة والحرّية والعزاء.. التوبة هي مفتاح السماء..