المساكين بالروح

في الموعظة على الجبل، فتح السيد المسيح فاه، وبدأت أنهار النعمة تنساب من شفتيه بعذوبة فيّاضة، لاتزال تروي البشريّة حتّى اليوم.. وكانت التطويبات التسعة في البداية هي المفاتيح الذي استخدمها الرب لكي يفتح بها قلوب السامعين.. حتّى يستطيع بعدها أن يبني دستوره ومبادئه داخلهم..!

كانت البداية: "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات"

+ ما هي المسكنة بالروح؟ الروح المسكينة هي الروح المتواضعة، غير المتعالية.. أي أنّ السيّد المسيح يمدح ويطوِّب المتواضعين بقلوبهم، ويَعِدهم بميراث ملكوت الله..

+ الاتضاع الحقيقي هو أن يعرف الإنسان نفسه جيِّدًا.. يعرف أنّه تراب ورماد (تك18).. يعرف أنّه مجرّد آنية خزفيّة شرّفها الله بوضع كنوز نعمته فيه (2كو4).. يعرف أنّه مجرّد نسمة من الله أعطاها وسيأخذها.. وبالاضافة الى ذلك هو يعرف أيضًا أنّه مخلوق على صورة الله، وبالمعموديّة صار ابنا لله وسفيرًا له في وسط العالم..

+ قديمًا قال القديس مار إسحق السرياني أنّ: [الأعمال الصالحة والتواضع يجعلان الإنسان إلهًا على الأرض] بمعنى أن الإنسان المتّضع الذي يقوده روح الله في كلّ أعماله تظهر فيه صورة إلهه بكل وضوح..!


+ أحيانًا كثيرة يريد الله أن يهبنا نعمته بفيض، ولكن مَيْلَنا للكبرياء يجعل الله يتوقّف عن الفيض بنعمته لئلاّ نزداد كبرياءً.. أمّا الإنسان المتواضع فيفيض الله عليه بلا حساب، ويستودعه أسراره العميقة، واثقًا أنّ التواضُع يحفظه.. وهذه النوعيّة من المساكين بالروح تجدهم قليلي الكلام، لا يتذمّرون أبدًا، يقبلون الآلام بشكر، يحبُّون الكلّ ويخدمون الكلّ بلا تمييز، لا يفتخرون بأنفسهم إطلاقًا مهما أخذوا من نعمة ومجد، بل يفتخرون فقط بمحبّة الله ورعايته وأمانته..! 

+ هناك حقيقة أخرى هامّة في هذا الموضوع؛ أنّ المسكنة بالروح لا تورَّث، بل تُكتَسَب بمزيج من الجهاد والنعمة.. لقد أكّدَ السيّد في حديثه مع التلاميذ: "مَن وضع نفسه مثل هذا الولد هو الأعظم في ملكوت الله.." (مت18).. وهذا معناه أنّ جهادنا الكبير لكي نكون عظماء هو أن ننكر ذواتنا ونضع أنفسنا مثل الأطفال الصغار، وهذا بالطبع هو الذي سيؤهِّلنا للنعمة لأن "الله يعطي نعمة للمتواضعين" (1بط5).

+ لنأخُذ بعض أقوال الآباء عن التواضع والمسكنة بالروح، من واقع خبراتهم الحيّة الصادقة:

* القدّيس يوحنّا ذهبي الفم:

[المساكين بالروح هم المتواضعون والمنسحقو القلوب.. ولا يُقصَد مَن هو متواضع ومتذلِّل بالإكراه، بل أولئك الذين باختيارهم ومحبتهم يضعون أنفسهم ويذلِّلونها، والذين تعتريهم خشية ورهبة لدى سماع الوصايا الإلهية. يقول الله: "إلى هذا أنظرُ إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش66: 2). وذلك الإنسان الذي ينزل إلى أقصى حدود الاتضاع ويكسر نفسه "الذبيحة لله روح منسحق، القلب المتخشّع والمتواضع لا يرذله الله" (مز50: 19)].

[كما أن الكبرياء هو ينبوع كل الشرور هكذا التواضع هو أساس كل ضبط للنفس].

[كل صوم وكل صلاة أو عِفّة أو صَدَقَة إذا اجتمعت في بشر ما دون وجود الاتضاع فسيتلاشى الكل ويزول. هكذا الفريسي الذي وصل إلى الذروة في تطبيق شريعة الله لكنه فَقَدَ كلّ شيء بسبب كبريائه وتبجُّحِهِ على أخيه بعفته وصيامه..].

[لقد وُضع هذا (التواضع) كأساس يقوم عليه البناء في أمان، فإن نُزع هذا عنّا حتى وإن بلغ الإنسان السماوات ينهار تمامًا، ويبلغ إلى نهاية خطيرة، بالرغم من ممارسته الأصوام والصلوات والعطاء والعفّة وكل عمل صالح. بدون التواضع ينهار كل ما تجمعه داخلك ويهلك].

* القدّيس غريغوريوس أسقف نيصُص:

[اقتناء الاتضاع ليس ميسورًا بل هو أصعب من الفضائل الأخرى.. المسكين بالروح هو شخص يستعيض عن رفاهية الجسد بغنى النفس، ويطرح عن نفسه السعي وراء الثروة ليطير مُحَلِّقًا في فرح الرب..].

* القدّيس أُغسطينوس:

[المسكين بالروح وديع، يخاف كلمة الله، ويعترف بخطاياه، ولا يغتر باستحقاقاته وببرّه.

المسكين بالروح هو من يسبّح الله حين يأتي عملاً صالحًا، ويشكو نفسه حين يأتي سوءًا.

المسكين بالروح هو من لا يرجو سوى الله، لأن الرجاء فيه وحده لا يخيب.

المسكين بالروح يتخلّى عن كل ماله ويتبع المسيح.. وإذ يتحرّر من كل حِمْل أرضي

يطير إليه كما على أجنحة].