تعليق وتوضيحات بخصوص ترتيب أحداث الميلاد

نشرت في العام الماضي مقالاً عن ترتيب أحداث الميلاد طِبقًا للمعلومات المذكورة في الكتاب المقدّس، وكتب التاريخ، ولخّصتها في عشرة نقاط.. وجاءني مجموعة استفسارات يسعدني أن أجيب عليها..

أوّلاً: بخصوص ميلاد المسيح ليلاً.. نفهم هذا من إنجيل معلّمنا لوقا الأصحاح الثاني، عندما جاء الملاك للرعاة وهم يحرسون حراسات الليل (لو2: 8) وليس من المنطقي أن يولَد المسيح بالنهار، ثم ينتظر الملاك عِدّة ساعات ليأتي ويبشِّر الرعاة في منتصف الليل!!

أمّا عن ميلاد المسيح في فصل الشتاء، فهذا تقليد مُسلّم منذ بدء المسيحيّة وموجود في جميع الكنائس التقليديّة، وعلى أساسه تمّ تحديد موعد الاحتفال بعيد الميلاد في 29 كيهك الذي كان يوافق 25 ديسمبر.

أمّا بخصوص رعي الأغنام، فهو عمل منتشر جدًا في أرض إسرائيل، ولا يتوقّف طول العام صيفًا أو شتاءً، والأغنام التي تتربّى في الشتاء هي التي يتمّ تجهيزها لموسم الفصح الذي يأتي في فصل الربيع.

 

ثانيًا: يتساءل البعض، لماذا وضعت في ترتيب الأحداث زيارة المجوس للطفل يسوع المولود بعد ذهاب العائلة المقدّسة للهيكل؟ وليس قبل ذلك؟ والإجابة أنّه في نفس يوم زيارتهم للطفل يسوع مساءً، جاء الملاك ليوسف في حلم وأمره بالذهاب لمصر، فقام في نفس الليلة وسافر لمصر.. فإذا كانت زيارة المجوس قبل ذهاب العائلة المقدّسة للهيكل فمتى سيذهبون للهيكل؟!

ونلاحظ هنا أنّ العائلة المقدّسة لا تستطيع المكوث في بيت لحم لفترة طويلة، إذ ليس لهم فيها بيت أو عمل وأقصد مورد رزق، فبيت يوسف وعمله في الناصرة، وهم ضيوف في بيت لحم.. فبالتالي لم يكُن من المناسب أن يمكثوا في بيت لحم مدة أكثر من الأربعين يومًا سوى أيّام قليلة.. بل الطبيعي أن يغادروا إلى الناصرة في أسرع وقت بعد تقديم المسيح للهيكل وتتميم شريعة التطهير.. ولا يوجَد أي سبب منطقي للمكوث في بيت لحم لمدّة أكثر من ذلك.. هذا يقودنا بسرعة إلى التفكير في أنّ زيارة المجوس، التي تمّت في بيت لحم، لابد أن تكون في خلال هذه المدّة، وليس بعد سنة أو سنتين.

 

ثالثًا: بخصوص زمان حضور المجوس ومكان لقائهم بالمسيح.. نحن في البداية أمام عِدّة حقائق إنجيليّة: المجوس حضروا لبيت لحم وليس الناصرة (مت2: 4-12) - المجوس وجدوا المسيح في بيتٍ وليس في مذودٍ (مت2: 11) - زيارة المجوس جاءت بعد إتمام طقوس التطهير في الهيكل (لو2: 22-38) - أنّ العودة للجليل إلى مدينتهم الناصرة جاءت بعد أن تمّموا كلّ الطقوس (لو2: 39).. ونلاحظ هنا أنّ القديس لوقا لم يذكر حادثة قتل أطفال بيت لحم ولا الهروب لأرض مصر، وقد يعني هذا أنّ المدّة التي مكثتها العائلة المقدّسة في أرض مصر لم تكُن مدّة طويلة، فأغفلها وهو يسرد الأحداث. مع الوضع في الاعتبار أنّه استقى معلوماته بالتفصيل من السيّدة العذراء شخصيًّا..

نحن أيضًا أمام حقائق تاريخيّة: أنّ هيرودس الكبير مات في ربيع سنة 4 قبل الميلاد، وهذا ما جاء في كلّ المراجع التاريخيّة، ومرفق رابط لأحدها (https://en.wikipedia.org/wiki/Herod_the_Great) - أنّ السيّد المسيح وُلِدَ في أواخر عام 5 أو أوائل عام 4 قبل الميلاد، وهذا ما جاء في معظم المراجع وأبحاث العلماء والدارسين، ومرفق رابط لأحدها (https://bible.org/article/birth-jesus-christ). فالأرجح بعد فهم الحقائق السابقة أنّ زيارة المجوس هي كانت بعد ٤٠ إلى ٥٠ يوما من الميلاد، في أحد المنازل ببيت لحم.

 

رابعًا: السؤال المتكرّر أنّه إذا كان المجوس قد أتوا بعد ميلاد المسيح بأقلّ من شهرين، فلماذا يقتل هيرودس الأطفال الذكور حتّى سِنّ عامين؟ والإجابة في تقديري وفي تقدير الكثير من الباحثين أنّه فعل هذا من فرط انزعاجه عندما سمع أخبار ميلاد ملك اليهود الجديد من المجوس، فحاول أن يتأكد تماما أنّه قضى على الطفل الرضيع، فأمر بقتل جميع الأطفال الذكور حتى سِنّ سنتين ليضمن تمامًا أنّه قتل المسيح وسطهم، مع أن المسيح وقتها لم يَكُن قد أكمل شهرين.. كما لا ننسى أنّ هيرودس كان شخصيّة شرسة وعنيفة، وقتل ثلاثة من أبنائه الأربعة قبل موته. (راجع الرابط في النقطة السابقة). أمّا عدد الأطفال الشهداء، فيُرَجِّح جميع الدارسين أنّهم كانوا بين عشرين وستّين طفلاً، ولم تُذكَر حادثة قتلهم في أيّ مرجع سوى الإنجيل.

 

خامسًا: حول المدّة التي مكثتها العائلة المقدّسة في مصر.. هناك حقيقة تاريخيّة، وهي موت هيرودس في بداية ربيع عام 4 قبل الميلاد (مارس/إبريل). ولابد من الانتباه أنّ التحرك في مصر غالبًا ما يكون عن طريق نهر النيل وفروعه التي كانت كثيرة في ذلك الوقت.. ففروع النهر كانت حتّى القرن التاسع عشر هي بمثابة الطرق في أرض مصر، وينتقل عن طريقها الناس والبضائع وكلّ شيء. مع ملاحظة أنّ المناطق المأهولة بالسكان في مصر ليست في مساحات شاسعة، بل فقط حول نهر النيل وفروعه.

بخصوص المخطوطة أو البرديّة المُكتَشَفة حديثًا والتي تَذكُر أنّ العائلة المقدّسة مكثت في مصر ثلاث سنوات ونصف، فالحقيقة أنّها هي المخطوطة الوحيدة التي تقول هذا، ولكننا لا نعرف كاتبها أو مدى صحّة ما تقوله.. والواقع أنّ ما تذكره البردية من الصعب تصديقه لأنه يصطدم بحقائق تاريخية وإنجيلية أخرى كثيرة.. وتعليقي عليها هو:

١- معلومة الثلاث سنوات ونصف بدأ ترديدها منذ أقلّ من عشرين عاما، وقبلها كنا نسمع أنّ العائلة المقدّسة مكثت عِدّة شهور.. وكلّها معلومات غير مؤكّدة.

٢- بحسب المنطق لا داعي للوجود في مصر بعد موت هيرودس، الذي حدث في ربيع عام 4 قبل الميلاد.

٣- القديس لوقا في إنجيله أغفل الذهاب لمصر، وقال أنّهم عادوا لمدينتهم الناصرة بعد أن تمّموا كلّ شيء، وهذا معناه أن الذهاب لمصر كان رحلة سريعة انتهت بموت هيرودس، فلم تأخذ وقتًا كثيرا. وكما ذكرتُ من قبل أنّ القديس لوقا عرف من السيدة العذراء الكثير من التفاصيل الدقيقة ودوّنها، ولكنّه لم يذكر شيئًا عن رحلة مصر.

٤- من الناحية العِلميّة، لا نستطيع أن نعتمد على مخطوطة يتيمة هنا أو هناك، لأنّ كاتبيها لم يكونوا شهود عيان.. وأحيانا نجد في المخطوطات غرائب ليس لها أيّ أساس من الصحّة.

٥- طبيعي أن يوجد في المصريين مَن يحاول تطويل المدّة ليفتخر بهذا كمصري.. ولكنّ أولاد الله يهمهم بالأكثر الحقيقة، وليس الافتخار من هذا النوع. فافتخارنا الأعظم هو أنّنا أولاد الله الآب وأعضاء في جسد المسيح وهيكل للروح القدس.

٦- ترديد الكلام بدون فحص هو أمر موجود للأسف في الثقافة المصرية، ويحتاج إلى تغيير.. وليس من المفيد أبدًا ترديد أيّ شيء نسمعه بدون تدقيق في صحّته.

7- الأماكن التي عبرت عليها العائلة المقدّسة هي أماكن مباركة بحسب تقليدنا القبطي المحلّي.. ولكنها لا تحتاج لسنوات للمكوث فيها أو العبور عليها، بل فقط لأيّام أو أسابيع..!

8- أنا لا أتحدث عن خَطّ سير الرحلة، بل أقول أنّ مدة الإقامة بمصر لم تكن طويلة، لأن هيرودس مات في أبريل في حين أن الهروب لمصر كان في أوائل فبراير..

 

أرجو أن أكون قد أجبت على معظم التساؤلات، وألقيت المزيد من الضوء على هذا الموضوع.. وبالطبع مجال البحث مازال مفتوحًا لكلّ مَن يريد أن يعرف المزيد..