الذي سيأتي بعدي

قيل عن القديس يوحنّا المعمدان أنّه جاء لكي يهيِّئ الطريق أمام السيّد المسيح، الذي سيأتي بعده.. وكان هو الملاك الذي هيَّأ للرب شعبًّا مُستعِدًّا (لو1: 17).

أحيانًا نجد الناس ينحصرون في الاهتمام بقضاء أمورهم، ولا يفكّرون في الذي سيأتي بعدهم.. وقد يتركون المكان أو المناخ غير ملائم للذين سيأتون بعدهم..!

في معجزتيّ إشباع الجموع، حرص السيّد المسيح أن يأمر التلاميذ بجمْع الكسر، وترْك المكان نظيفًا لمن سيأتي بعدهم ويستعمل نفس المكان.. وفي نفس الوقت تمّت الاستفادة من الكِسَر.. فلم يكُن حسنًا أن يفرح الناس بالأكل والشبع ثم يتركون المكان مثل مزبلةٍ مملوءًا بالفضلات.. بل كما وجدوه نظيفًا في حضورهم، يتركونه نظيفًا قبل مغادرتهم..!

من هنا ينبغي أن يهتمّ كلّ واحد بمَن سيأتي بعده، فيترك له المكان نظيفًا مهيّأً.. فمثلاً الشمّاس بعد انتهاء القدّاس يرتّب كلّ شيء في مكانه، وينظّف الهيكل، ويعدّ كلّ ما يلزم للقدّاس التالي، لأن هناك مَن سيأتي بعده للصلاة ويريد أن يجد المكان جاهزًا.. وهكذا في كلّ أعمالنا يلزمنا أنّ نفكِّر في الذي سيأتي بعدنا ليستعمل المكان أو الآلة أو السيّارة.. فنترك كلّ شيء في حالة جيّدة وجاهزة للاستعمال..

كانت هناك رغبة كبيرة لداود أن يبني بيتًا للرب الذي أحبّه من كلّ قلبه، ولكنّ الرب لم يسمح له، فقام داود بإعداد وتجهيز كلّ مستلزمات البناء لابنه سليمان الذي سيأتي بعده ليقوم بالبناء.. وبالفعل وجد سليمان كلّ الإمكانيّات مهيَّأة له، فبني الهيكل وأبدع في تزيينه وتجميله..

نحن غرباء على الأرض.. مجرّد عابرون، نستعمل العالم (1كو7: 31) لفترة محدودة ثم نغادره.. لذلك يلزمنا أن نفكِّر جيّدًا ماذا أعددنا للجيل التالي لنا؟! هل سنسلّمه قدوة مقدّسة وإيمانًا نقيًّا مستنيرًا مشتعلاً بحبّ الله.. أمّ نورّثه مشاكلَ وتحزّباتٍ وألغامًا وأحمالاً ثقيلة وانشغالاً بقضايا تافهة ومصارعة طواحين الهواء..!

ليكُن لنا هذا الفكر باستمرار، كيف نقوم بتهيئة المكان والمناخ لمَن سيأتي بعدنا، بدءًا من أصغر الأمور في حياتنا اليوميّة، مرورًا بإعداد الخطط للمستقبل القريب، وصولاً للخطط الاستراتيجيّة طويلة المدى..

في حديث القديس بولس الرسول مع تلميذه تيموثاوس، يوصيه أن يهتمّ بالأجيال التالية له. ليس فقط أن يسلّمهم الإيمان بل أيضًا يعدّهم ليكونوا خدّامًا ذوي كفاءة يستطيعون أن يعلّموا أجيالاً ستأتي بعدهم.. فقال له: "وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا" (2تي2:2).

قيل في الشِّعر العربي عن أناسٍ يتعالون على الآخرين ولا يبالون بهم: "وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْوًا، وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدِرًا وَطِيْنَا".. أو كما يقول المَثَل: "أنا.. ومن بعدي الطوفان"، أي أن يهتم الإنسان بقضاء مصلحته فقط، وبعدها لا يهتمّ بالذي سيأتي بعده، حتّى وإن كان هناك طوفان آتٍ ليهلك الآخَرين فلا يهمّني مادمت أنا قد نجوت.. هذا بالطبع يكشف عن غياب المحبّة والإحساس بالناس، وغياب المحبّة هو غياب الله من حسابات الإنسان..!

ما أجمل أن يرتّب الإنسان الأمور للذي سيأتي بعده.. مِثل الذين يزرعون أشجار النخيل، فهم يعرفون أنّها ستثمر بعد سنوات طويلة وأنّهم قد لا يأكلون من ثمرها، لكنّهم يفكرون في الذين سيأتون من بعدهم.. هكذا قيل عن القديس أثناسيوس الرسولي أنّه بتعاليمه وكتاباته ظلّ يزرع أشجارًا طوال حياته، حتّى تتمكّن الأجيال التالية أن تستظلّ تحتها..!