فضائل في حياة البابا شنوده الثالث

بمناسبة عيد نياحته السادس.. أود في هذا المقال أن أتأمّل في خمس فضائل فقط، ضمن فضائل عديدة، لمستها خلال معايشتي لمثلّث الرحمات قداسة البابا شنوده الثالث..

1- انتقاء الألفاظ:

يُعلِّمنا الإنجيل أن يكون كلامنا كل حين بنعمة مُصلَحًا بملح (كو4)، وأنّ كلّ كلمة بطَّالة تخرج من أفواهنا سنُعطي عنها حسابًا (مت12).. لقد كان البابا شنوده الثالث نموذجًا تطبيقيًّا نتعلّم منه كيف نعيش هذه الآيات.. كُنّا نراه دائمًا يَزِن الألفاظ قبل أن ينطق بها.. ينتقي أفضل الكلمات وأبسطها وأكثرها رِقّة وعذوبة، وينزعج من سماع الألفاظ الصعبة أو الحادّة..

كان من الصّعب أن نجد كلمة واحدة خَشِنة أو عنيفة في ألفاظه.. هذا على مستوى أحاديثه الغزيرة في التعليم الكنسي والحوار، أو على مستوى حياته الخاصّة وتعاملاته اليوميّة مع مَن حوله..

وكان يُدهِشني دائمًا هذا الأمر، فقد درّب نفسه جيِّدًا على انتقاء أفضل وأهدأ الكلمات والتعبير بها، مهما كان الموقف يحتاج إلى شِدّة.. فالشِّدّة عنده لا تعني الخطأ في الكلام أو جرح الآخرين.. لقد كان يزِن الكلمات بميزان الذّهَب قبل أن يُخرِجها من فمه.. فعاش الوصيّة التي تقول: "لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحًا لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ." (أف4: 29).

 

2- الاتزان في الحُكم

عندما كان قداسة البابا شنوده يحكُم على أمر، كان يفكِّر كثيرًا قبل أن يتكلّم، ويسمع ويحلِّل كلّ المعلومات المُتاحة من كلّ ناحية، ويحاول أن يستكشف الباطن ليضيفه للظاهر، ويتروَّى بكلّ هدوء قبل أن يُصدِر الأحكام.. وتشعُر أنّه يستشير الله قبل أن يتّخذ أيّ قرار..!

كان دائمًا يضع أمامه هذه الآية: "مبرّئ المُذنِب ومُذَنِّب البريء كلاهما مكرهة الرب" (أم17: 15).

لذلك كانت غالبيّة أحكامه تأتي غاية في الاتّزان، وكانت آراؤه مُبهِرة في دِّقّتها، ورؤيته للأمور مملوءة بالحكمة..

من الجميل أن نتعلّم هذا الأمر في حياتنا، لكي لا نندفِع في اتّجاه نظنّه خيرًا ويكون به ضرر كبير، أو نظلم أحدًا نتيجة معلومات من جانب واحد، أو نتّخذ قرارًا نندم عليه نتيجة رؤية غير مُكتمَلة..!!

 

3- النظرة المستقبليّة

كان قداسة البابا شنوده الثالث يتميّز برؤية بعيدة ونظرة مُستقبليّة ممتدّة، يساندها بالطّبع إلهام إلهي واضِح لا يمكن إنكاره، فكم من أشخاص وضعهم في أماكن فكانوا سبب بركة ونمو للخدمة، وكم من أفكار وتخطيطات ومتابعات وتضحيات قدّمها كانت سببًا في نمو الكنيسة القبطيّة في كل قارّات العالم السِّت.. وكلّنا نعرف مدى اهتمامه بالشباب والترجمة وبالأنشطة المتنوّعة لخدمة الأجيال الجديدة..

ويحضرني الآن موقِف بسيط لا أنساه له.. ففي يونيو 2008م ذهبت مع سِتّة من الآباء الكهنة في الإسكندرية لزيارته والسؤال عنه وأخذ بركته في مستشفى كليفلاند بأمريكا، على إثر تعرُّض قداسته لكسر في عظمة الفخذ الأيسر.. وهناك في المستشفى قدّم له أحد الآباء أوراق عقد جديد تمّ بموجبه شراء أرض متميِّزة لخدمة الكنيسة بإحدى مناطق الإسكندريّة، وكان قداسته قد ساهم في ثمن تلك الأرض بمبلغ كبير.. ففرح سيِّدنا جدًّا عندما علم بإتمام عمليّة الشراء، وقال وهو يُمسِك بالعقد في يديه: "الشّاري كسبان".. وهي عِبارة يظهر منها بُعد نظره، واهتمامه بمستقبل أجيال قادمة من أبناء الكنيسة، على الرغم من وجوده وقتها على فِراش المرض، ولكنّ قلبه وعقله لم يكونا يتوقّفان أبدًا عن الاهتمام بمستقبل الكنيسة، والعمل على نموّها..

 

4- التعامُل بضمير صالح

لم أرَ في حياتي إنسانًا يُحَكِّم ضميره في كلّ شيء مثل قداسة البابا شنوده الثالث.. فهو كان يحرص أولاً على الحفاظ على حساسية ضميره دون أن تضعف هذه الحساسية بأيّة مؤثِّرات خارجيّة.. وأيضًا كان يهتمّ بمراجعة وتغذية ضميره بالفِكر الإلهي باستمرار، حتّى يظلّ الضمير متيقِّظًا ونقيًّا.. ثم لا يتصرَّف أي تصرُّف يخالف فيه ضميره..!

كان أيضًا يتمتّع بدرجة عالية من الصِّدق مع النفس، والتي هي صِفة أساسية للتلامس مع الله واتّخاذ القرارات الصّائبة، كما أنّ الصِّدق مع النفس يحفظ الضّمير صاحيًا ومستقيمًا، فلا ينقسم الإنسان على نفسه، ولا يدخل في الازدواجيّة.. بل يضبط الضمير كلَّ تحرُّكات النفس باتّزان كامل..

لقد كان نموذجًا رائعًا وضعه الله أمامنا، ليهتمّ كلّ واحد فينا بتربية ضميره، والحفاظ على حساسيّته ونقائه، مهما كان حجم الفساد المُحيط بنا..!

 

5- المرجعيّة الكتابيّة في كلّ الأمور

كلّ مَن اقترب من قداسة البابا شنوده الثالث، وسمع كلامه، أو تعامل معه، أدرك بسرعة أنّ الكتاب المقدّس موجود وحاضر بالكامل في قلبه، وفي خلفيّة تفكيره، وهو قاعدة الانطلاق لكلماته وتأملاته.. كما أنّ وصيّة الكتاب هي المِعيار الدقيق الذي يزِن به كلّ الأمور.. وعندما كانت تظهر أفكار أو اتّجاهات جديدة فكان يضعها تحت أضواء الكلمة الإلهية ليفرز السّليم من الخطأ..!

كنت أتأمّله يومًا، وهو يبحث بأصابعه في صفحات الإنجيل ليستخرج لنا في اجتماع الكهنة، شواهِد كتابيّة عن موضوع معيَّن، فكان يبدو مثل عازف البيانو الماهر الذي يتحرّك بأصابعه على آلة البيانو بكلّ سلاسة، ليعزف مقطوعة موسيقيّة جميلة.. فهكذا أيضًا قداسة البابا شنوده كان في عزفه على أوتار الكتاب بسلاسة وجمال، تتحرّك أصابعه داخل الصفحات التي خَبِرَتها آلاف المرّات، لكي تُخرِج لنا مفاهيم وتعاليم غاية في العذوبة والعُمق والجمال..

بركة صلاته المقدّسة تكون معنا جميعًا. آمين.